الاثنين، 28 مارس 2016

الشيخ علي ود قيامة رحمه الله رحمة واسعة


لَا زِلْنَا نَتَعَلَّمُ مِنْكَ
أَيُّهَاْ الْشَّيْخُ الْصَّالِحً عَلِي وَدْ قِيَامَة
(رَحِمَكَ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً)
                                   د. مُحمَّد الفاتِح يوسُف أبوعاقلة
                                               جامعة السُّودان المَفْتُوحة
                                           إِدَارة البُحوث والتَّخْطيطِ والتَّنمية

***

الشّيخ  علي ود قيامة (1901- 2003) رحمه الله رحمة واسعة، كان رجلاً صالحاً ومبدعاً، عُرف بأنه من أمهر من يصنع الأطراف الصناعية في السودان، والتي نافس بها الأطراف المستوردة من الخارج، وهو رجل مخترع استطاع أن يخترع آلة لزراعة الذرة، وأخرى لإزالة الحشائش، وثالثة للحصاد، وكلها من المواد المتاحة في منطقة (الكتوتاب) بالبطانة. 
  وهو شاعر مجيد، نظم الشعر الشعبي على نسق الدوباي، وتميز شعره بالحكمة، والوعظ، والدعوة إلى الخير، وحث الناس على العمل وترك الخمول والكسل.  
  (رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله قبولا حسناً، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء).
Sheikh Ali Wad Giamma God's mercy upon him, was a good and creative man, identified as the most skilled of manufactured industrial parts for the handicapped in Sudan, which competed with the importing parts from overseas, he was truly a creative genius man, was able to manufacture a machine for the cultivation of maize, and the other to get rid of the weeds, and a third of the crop, all from materials available in his area lining.

 He was an excellent poet, folk poetry organized along the lines of Aldobai, and clicked off his poems with wisdom, preaching, and exhorted people make and leave the lethargy and sloth. (God's mercy wide upon him, and accepted well received, and the soul rest in peace with the martyrs.)
***
      عندما كان في سن السابعة، وهو في رحاب الخلوة، يتلقى دروس القرآن الكريم، ويستقي نفحات المسيد، وعطر الإيمان، والهدى والفلاح، وفي طريقه على دادابٍ ضيِّق، يمر بالقرب من شجيرات السيال والهجليج، لمح جسما لامعا، متكموماً بلا حراك، على الغباش اليابس، دنا منه وتفرس فيه، فكان الطائر المشهور (حَبِيب بَلَّاع الدَّبِيب)، منكفئاً يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد تورَّمت وانتفخت قدمه المكسورة، وأصبح لونها داكناً، بفعل تعفن مكان الكسر، في منتصف الساق.
      توقدت بصيرة الطفل الفطن النَّقي، واهتدى إلى فكرة، سرعان ما بدأ في تطبيقها، وهو يجيل بصره متفقداً مكونات المكان، فلمح شجيرة (عشر) على مقربة من المكان، قصدها واقتطع منها فرعاً، شرع في تسويته وتجويفه وتوضيبه، ليماثل الساق المكسورة، وجاء به لمضاهاته مع الساق، حتى إذا اطمأن إلى تمام صنعته، قام من حينه بقطع ساق الطائر أعلى مكان التورم، في منتصف الساق تماماً، ونظَّف مكان الكسر، وجاء بعود العُشَر الذي أعده، وقام بقياسه وضبطه، وأدخل فيه الجزء المتبقي من الساق، وعمل على لفه وربطه ربطاً محكماً، وتأكَّد من التوازن بين الساقين. وبعد أن أتم مهمته هذه، قام برفع الطائر وتثبيته في وضع الوقوف، فشرع الطَّائر يضغط على رجله الجديدة، ويخطو متردداً متأرجحاً، وفجأة صفق الطفل يديه بقوة، فأجفل الطائر، وضغط على رجليه معاً، شارعاً في التَّحليق، فارتفع من الأرض، وأعمل جناحيه وحلَّق في الفضاء، ولكن للأسف لم تتحمَّل الساق الجديدة التي صنعها الطفل، ثقل جسم الطائر فانكسرت، بعد أن مكَّنته من التَّحليق، وبات يتابع الطائر يحلق مبتعداً، ورجله الخشبية تتدلى متأرجحة، فعلم أنه لا بد أن يسقط قريباً من المكان، فأسرع يتابعه إلى أن وجده قد سقط في مكان ليس ببعيد من مكانه الأول.

     تبين الطفل أنَّ الخلل نتج من نوع الخشب الذي انتخبه لصنع الساق، فاتجه إلى شجرة لعوت قطع منها فرعاً ممتلئاً قوياً، وقام بمعالجته بنفس الطريقة السابقة، وصنع للطائر طرفاً صناعياً جديداً، مكَّنه من الطيران والذهاب بعيداً في السماء، ولم يلتق به مرة ثانية في حياته، التي أنجز فيها منجزات باهرة، دلت بما لا يدع مجالاً للشَّك، على أنَّ هذا الفتى التقي، الهميم، مبدعٌ ومخترعٌ لا يُجارى. إنه الشيخ على ود قيامة الكتوتابي الدُّباسي، من مواليد عام 1901م، بقرية الكتوتاب بشمال البطانة، والتي تبعد مسافة ثمانية عشر كيلومتراً شرق مدينة ود راوة، بولاية الجزيرة، وتجاور قرى: الركيب، قوز حماد، والغسيناب، تحيط بها أشجار متفرقة من الطندب، والهجليج، والسيال، وتخضر أرضها الهمريبة، المشقة الهربة التي وصفها الشيخ علي ودقيامة بقوله:
أرضنا فُودة هِمْريــــبة ومِشَقَّة وهُرْبَة
نَخَلة عِيشنا إنْ لِقتْ السَّواري بتربى
تجيب حَباً مِتافِح مَاهو نَاقِص شَرْبه
والشُّوبَارة أَركز مِلَّا عـُـــــــــود الحَرْبَـــه
    تسربلت الروح البدوية للشيخ علي ودقيامة بالفلاح والصَّلاح، وكان العمل والكدح في طلب الرزق الحلال جوهر فكره، فظل طيلة حياته يحث الناس على العمل والصبر، والتفاؤل بالخير، مارس الزراعة والرعي والصناعة، حيث يؤثر عنه أنه كان يصرح بإنه يتقن ما يقارب تسعين حرفة صناعية، ويبرع فيها. جاءت مخترعاته كلها لتيسير حياة الناس، فقام بصناعة (الجَرْجُور) الكبير والصغير، والجرجور هو آلة يتمكن بها من إزالة الحشائش الطفيلية من بلاده، التي أطلق عليها (أمْ تُرْبَة).
وكان شديد الإعجاب بهذه البِلاد (الأرض الزراعية). وصنع آلة للزراعة، وآلة للحصاد تجر بالحيوانات، وبرع واشتهر وعرفه القاصي والداني، وبخاصة في صناعة الأطراف الصناعية، التي نافس بها الأطراف المستوردة من الخارج، لأنه صنعها من الجلد المرن اللين، وصنع لها تأميناً، لثبيت ولاستقامة مفصل الركبة، وأنه جعل الأطراف خفيفة لا تثقل جسم لابسها، وصمم لها حزاماً جلدياً قوياً، يجعلها مثبتة بالجسم. فتفوَّق بهذه المزايا التي توفرت في صناعته، على الأطراف المستوردة. فأقبل عليها الذين هم في حاجة إليها، وظلوا يؤثرونها على غيرها، إلى يومنا هذا.
     عندما تمَّ حفر حفير (الجَلَّادة)، وتَحَّلق الناس ببهائمهم المختلفة حوله في مشهد فريد، شعر الشَّيخ على ود قيامة، بأن منطقته مقبلة على خير عميم، فكان أن بدأت دعوته لتعمير الشَّرق، وترقيته، ومده بالكهرباء، والمياه والمشاريع الزراعية، والتي كانت في أجندة أحلامه ورؤاه، تفاءَل بها وتمنى تحققها لمنطقته، وقد كان له ذلك- والحمد لله تعالى- فقريته (الكتوتاب) الآن، تشمخ مئذنة مسجدها، تصدح بالآذان للصلوات الخمس، وتنعم بالكهرباء، والمركز الصِّحي، ومدارس التَّعليم الأساس والثَّانوي، للبنين والبنات، وكلها على الطراز الحديث، ، وأبراج تقوية الاتصالات (ثلاثة أبراج)، وتطورت فشهدت المباني الحديثة، التي تقف وبجوارها المباني القديمة (مباني الجالوص)، والتي يحتفظ بها أبناء وأحفاد الشيخ علي ود قيامة، لتبقى تراثاً، وذكرى عذبة طيبة. تذكرهم بماضي أيامهم، وبأهلهم الذي رحلوا عن الدنيا.  
        عرفت الشيخ علي ود قيامة عن قرب، وجلست معه فترات طويلة، واستمعت إليه وهو يعظ الناس، ويلقي عليهم شعره المترع بالحكمة البليغة، فهو مربٍ، وداعية إلى الخير والعمل الصالح، وله أسلوب لطيف عفوي، فترى الناس حوله، وهم في سكينة وأدبٍ جَمْ، ينهلون من مواعظه، وتسري كلماته في أنفسهم. كان هذا خلال فعاليات مهرجان الإبداع الثقافي الثاني بود مدني، في فبراير من العام 1992م، حيث كان الشيخ علي ود قيامة، ضمن الذين حضروا لتقديم تراثهم المتميز، والذي يتمثل في معرض مصنوعاته، ومنجزاته المبهرة للناس. وفي مقدمتها الأطراف الصناعية، للذين فقدوا أطرافهم، وآلة الزراعة، وآلة الحصاد، وآلة إزالة الحشائش (الجَرْجُور)، فكان محل حفاوةٍ وتقديرٍ من الجميع، لتميز أعماله، ولمقابلته للناس بسمته الوقور، ووجهه الوضيء، المشع بنور اليقين والتقوى.   
علمت من أبناء الشَّيخ علي (ود قيامة)، أَنَّ اسم (قيامة) مشتق من قيام السَّيف، أو رُكَازه، وربما من (قِيَامة) بمعنى الحَرَابَة، و(المَغَار) على الآخرين، وهذا اسم قديم، يعود إلى زمن الحروب والقيمان، والمَغارات في التَّاريخ القديم، السَّابق لقيام مملكة الفونج. وينطق حرف القاف في الاسم (قيامة)، كما تنطق القَاف في عاميتنا السُّودانية، وليست مثل نطق القاف الفَصيحة المقلقلة. وهي قاف نجدها في لسان أهل اليمن حتى يومنا هذا، وهذا شاهد على رسوخها في الفصاحة.
     تتوزع أسرة الكُتُوتاب في ثلاث قرى، تتواصل فيما بينها في كل المناسبات، ويتعاون أهلها كأفضل ما يكون التَّعاون والتكافل، تشُدُّهم أواصر القُربى والمودة، والقُرى هِي:
1- الكُتُوتاب، ولاد دِرِيس.
2- الكُتُوتَاب، السِّمير.
3- الكُتُوتاب، أولاد ود قيامة.
       للشَّيخ علي ود قيامة عشرة أخوان أشقاء، هم:
1- محمَّد ود رحمة الله (الدَّلنْدُوق).
2- الشَّيخ الصديق رحمة الله قيامة.
3- خالد رحمة الله قيامة.
4- علي رحمة الله قيامة.
5- عبدالله رحمة الله قيامة.
6- أحمد رحمة الله قيامة.
7- الماحي رحمة الله قيامة.
8- عبد الكريم رحمة الله قيامة.
9- عبدالباقي رحمة الله قيامة
10- عبدالقادر رحمة الله قيامة.
  أبناء الشَّيخ علي ود قيامة، هم:
1- الصِّديق علي ود قيامة.
2- محمَّد علي ود قيامة.
3- عبدالله علي ود قيامة.
4- أحمد علي قيامة.
            وله من البنات خمس.
      لقد ذَكر لي علي محمَّد علي قيامة، أن أحد الشعراء كان قد زار منطقة الكتوتاب، والتقى بالشيخ علي ود قيامة، ووقف على مناقبه، وحسن معشره وحكمته، ووقف بنفسه على أثر هذا الرجل على أهله وعشيرته، وكيف أنه يمثل القوة الدافعة للعمل والعطاء الطيب، فقال شَّعراً يصف فيه أسرة الشيخ علي ود قيامة بالكتوتاب، مشيراً في خاتمته إلى صلة القربى بينهم وبين أهلهم الشكرية، فهم أسرة واحدة فالكتوتاب من الدباسيين وهم أبناء بشير، والشكرية أبناء شكير، وبشير وشكير أخوان شقيقان:
تعال يا صاحبي نحكيلك نفايلا فيــهن
الجود والكرم من الجــــــــــــــدود راجيهن
فترات الزمــــــــــن ما دَعترنو مشيــــــهن
وجَدَبات السنيــــن ما كمَّلن دخريهــــــن
***
أبواتن قبيـــــــل وكــت الضَّعـــن باريــــهن
دفّـــَاع المَرابيــــــد والفَعـــــــــــالا سريـــــــهن
لى بلد الشروق مشو شايبن وصبيهن
حَجُّو وزارو لى سيـــــد الشَّفاعة نبيهن
***
من شدة سَخَاهن وساهلة الفي ايديهن
الهِنا والهِناك مـــافْ من بجــي يعاديهن
ذرية بشيــــــــر وشَكِيـــــــــر جـــدودن ليهن
بى نسبن عديـــــــل وتَشَبُّهـــــات ما فيهن
***
      تقع قرية الكُتُوتَاب في منطقةٍ طيبة التُّربة، يقوم أهل الكتوتاب بزراعتها بالذَّرة الرفيعة، وتخرج لهم محصولاً عالي الجودة، وبخاصة (بِلاد) الشيخ علي ود قيامة، التي سمَّاها (أُم تُرْبة)، وهي جزء من وادٍ يقع جنوب غرب الكُتُوتَاب، على بعد ثمانية كيلومترات تقريباً.  
   نجد أنَّ الشيخ علي ود قيامة يكثر من الدُّعاء في أَشعاره المتميزة، التي تَنْحُو إلى الوعظ، وتذكرة الناس بفضل العمل، والبكور في طلب الرِّزق، وطرد الكسل والخمول، ولقد نظمها كلها على قوالب الدوبيت المربَّع، الجيِّد السَّبك، السَّهل الألفاظ، المترع بالموسيقى التي تتلاءم مع حالة الوعظ والإِرشاد، فنجده يخاطب (بِلاده) أُمْ تُرْبة، قائلاً:  
بعد الحَالة يا أمْ تُربة الكَريــم يِدِّيــكْ
سَوارياً توالي وضُهري ليهــو تَكيـــكْ
عيـــشك يتقلد معلوم طبيعتن فيــــكْ
ويتخلفــــن قناديـلك نوايـــب كيـــــــكْ
***
       تشبيهات منتزعة من البيئة التي تحيط بالشَّاعر في سهل البُطانة، فالسَّواري، وهي الأمطار الليلية المتوالية، والتي تستغرق زمناً طويلاً في هطولها، وتعمل على سُقيا الأرض، وتفيد النَّبات فائدة واضحة، والمطر الضُّهْري الذي يُصدِرُ سحابُه صوتاً هو (التَّكيك)، وغالباً ما يتساقط الثلج (البَرَدَ) مع هطوله، تنسجم هذه العناصر كلُّها في هذا الجو الطيِّب، فينمو نبات الذُّرة وتكبر سنابله (قناديله) الممتلئة، وتظهر للرَّائي كأنها تتعانق من شدة غزارة نباتها، فيشبه القندول بناب (الكِيك)، وهو البَعير الذي تَقدَّم في العُمر، والذي يكون نابه كبيراً.  
السُّوريب غزير فوقو ان مَشيت برميكْ
واللبلب حُمرتـــــو متل عَلاعَل الدِّيـــــــــكْ
جزيرتن في خـَــــلا الحُرَّات بتربحْ فيــــــكْ
تنتج كل شيء معلــــوم عزيزه وطيــــــك
       يصف الشاعر الشيخ علي ود قيامة مقدرة الأرض على إنبات الحشائش، وهي السوريب الذي يعوق الحركة، ويجعلك تسقط وسطه إنْ حاولت المرور عبره، واللبلب الذي شبَّه لونه بعَلاعِل الدِّيك، وبمثل هذه المواصفات الدقيقة، التي أوردها، يمكننا التأكُّد من جودة هذه الأرض، وصلاحيتها للزِّراعة النَّاجحة المربحة للمزارعين.
نَعل يا الفِتريـــت القَش نَداك مَـــا شربُو
نَعل ما قلت غَنَّايـــــــــك مَجالي حَقَربــُــو
نَعل ما قلت شال مال المَسُور يسكربُو
نَعل مـــا قلت جَافاني وعَمَــــاري بَخربـُـو
***
        توصيف حشائش الأرض (القُشُوش)، والإشارة إليها بأنها تشرب ندى المحصول، دالة على حرص الشيخ ود قيامة، وعنايته على إزالة تلك الحشائش؛ لهذا أَعْمَل فِكْرَه، واخترع (الجَرْجُور) لحش تلك الحَشائش، مُوظِّفاً تصادم سيارة قديم، قام بتسويته وسن حافته، وربطه بأَعمدة تُعلَّق على الدَّواب، وتُجَر للتَّخلُّص من تلك الحشائش في زمنٍ وجيز، وفي هذا اقتصاد للزَّمن، وتوفير لجهد المُزارع، الذي لا يغفل عن زراعته، والذي يصرف نفسه عن مجالس اللهو والخَمر، التي تجلب البوار والضَّياع لروادها، وصياغة مربع الدُّوبيت بهذا الأسلوب الطَّلبي الإنشائي؛ يجعله لطيفاً عفوياً، يُحْدِثُ الأَثرَ المرجوَّ منه في نفوس سامعيه.   
أَنا السَّاها لي وَدْ حَمْرة بى جَرْجُورْ
أحْمَد بيها ربِّي الفَضْلو مُـــو منكورْ
الحَش الخِدمتو تَعدِّي لِيــــنَا شهورْ
خَلَّصْ مِنُّو يوم السَّابعة قبـل الدُّورْ
***
      يعترف الشَّاعر علي ود قيامة، بالدور الحيوي المهم الذي يقوم به (ود حَمْرَة)، وهو الثَّور الذي عُلِّقت على ظهره آلة الحَش، التي اخترعها الشاعر وابتكرها لمنفعة الناس، وهي(الجَرْجُور)، والتي تمكن بها من إزالة الحشائس في فترة وجيزة جداً لا تتجاوز الأسبوع، والمعهود أنَّ نفس هذا العمل، إذا تم بالطريقة التَّقليدية المعهودة (بالملود) العادي، لا يمكن إنجازه إلا في عدد من الشُّهور، لهذا يحمد الشَّاعر ربَّه، على نعمة توفير الجهد والوقت، التي أتاحها له الثَّور (ود حَمْرَة)، حيث أعانه ويسَّر له جر (الجَرْجُور)، الآلة التي يشير إليها، ويوردها كثيراً في شعره، بنوع من السُّرور والرِّضا.
    إنَّ آلة الزراعة التي ابتكرها وصنعها الشَّيخ علي ود قيامة، من المواد المحلية المتوفرة ، شاهد قوي على عبقرية هذا الشَّيخ، وقدرته الرفيعة على الابتكار والإِبداع، فهي آلة تعمل على زراعة بذور المحصول، ورميها في التُّربة، مع الاحتفاظ بنفس المَسافة التي نجدها بين الحفرة والأُخرى، والتي يراعيها ويحافظ عليها المزارعون، عند استخدام الآلة التَّقليدية القديمة (الملود) أو (الجرَّاية).  
  تستخدم الدواب في جر هذه الآلة، التي صنعت من الخشب والحديد، ولها عجلتان وصندوقان، تصب فيهما البذور التي تبذر، وجعل لها فتحة تخرج منها تلك البذور، وفق حساب دقيق، وآلية هندسية، تتحرك بها هذه الآلة، لتقدم  للمزارع عملاً يتوافق مع احتياجاته الفنية، فالمسافات بين الحُفَر محفوظة بدقَّة، وكذلك كمية البذور التي تُرمى في الحفرة. إنه عمل متقن وبديع.   
بالليـــل والنَّهـــــار العلمـــا والضُّبَّاط
أهل الفن يقلِّبــوا في الأرض طبقات
بى قــــدرة الإِلـــــــــه والقـــــوة والآلات
كل يوماً يزيـدو قـوة ويزيـــدو نشاط
***
صادقيــــــن للعهود الربطهن ما فات
جادِّين في العَمَل ما ضيَّــعو الأَوقات
ماتبعوا الكَسل ما طبَّقــو الفرشـــــــات
ما قالـوا النَّهـدن والأيـــــــــام ماشَّـــات
***
        يعتبر الشيخ علي ود قيامة أنَّ الوقت مسألة لا غنى عنها، لأي عامل ينتظر مخرجات ممتازة من عمله، ويرى أن هذا هو ديدن العلماء والخبراء، وأهل الفن؛ وأحسبه يقصد بهم أهل الحرف والصنائع، والمهارات المختلفة، وهو في مقدمتهم، فهو خبير في صنائع متعددة يتقنها، ودائماً ما يجتهد ويبادر بتطويرها، وتجديد أدواتها، كما فعل في (الجرجور) و(الزَّرَّاعة)، والأطراف الصناعية، وغيرها من الحرف والمهارات، وهذا لا يتأتى إلا بالعمل، والكد والنَّشاط، وهو ما يدعو له ود قيامة في كل أشعاره، التي يحفظها أبناؤه وأحفاده، وكثير من أهل البطانة، يتمثلونها منهجاً يحتذونه، ويطبقونه في عملهم ونشاطهم.
ديل ابنا البلاد الأصلهـــن ســـوداني
كتلة نضيفة مافيش من طلع برَّاني
لى رفع الوطن بذلوا العميـــر الفاني
جادِّيــن في العمل يدَّركـوا كل معاني
***
     يحتشد شعر الشيخ علي ود قيامة بمثل هذه الدَّعوة، إلى التخلُّق بأخلاق أهل السُّودان الأصيلين، الذين عرفوا بالجد والتَّفاني في العمل، ونكران الذات في سبيل نصرة بلادهم ورفعتها.
ديل المتجنديــــــن الشيــــــبة والشبان
ضباط البـــــلاد بالعقلــــــــــة والفـــــدان
ديل الفي المجالات ذكرتن عاجباني
وتعجب كل من يعرف عليهو لساني
***
         يجد الزائر لقرية الكتوتاب ترحاباً وحفاوة تثلج الصدر، ويحس بأنَّ كل البلدة تستقبله وتسعد بزيارته، فالشَّباب والشيوخ كلهم يحيطون بالضيف، ويتسابقوا إلى خدمته، والقيام بواجب الضيافة نحوه، ووجوههم مشرقة بالبشر والسرور، وحقاً هذا هو السُّودان، ولقد صدق الشَّاعر الراحل إسماعيل حسن ( رحمه الله)، والذي قال: "تصوَّر كيف يكون الحال لو ما كنت سوداني, وأهل الحارَّة ما أهلي !)، فليسعد كل سوداني بسودانيته، وبانتمائه لهذا الوطن النبيل، وطن الشيخ علي ود قيامة، الذي يقول:
لى رفع الوطن هَجرو القريشياتْ
فاتوهن عَسالي وقَرْنَهن موجـــاتْ
خلُّدوا ذِكرى ترْفَع مُستوى الحُرَّاتْ
وسجَّلوا فِي تَواريخ البَلد صَفْحاتْ
***
       تُعتَبر ظلال البيوت، والمودة التي تندغم معها، وترتبط بها، سكينة وراحة، ولكنها ربما تصير مهلكة للعامل إنْ استمرأها، وجنح إليها وهجر زراعته، هذا ما أدركه الشَّيخ ود قيامه، فنجده يشير إلى حلاوة السكن إلى الأَهل في البيت، وركون النَّفس إِليها، ونلمح أنه يدعو لمغالبة هذه الدَّعة، فالمُغالبة تتضح في قوله: (فاتُوهِن عَسَالِي)، وذلك لأنَّ الإنجاز لا يتم إلا بهذه التَّضحية، والنُّزوع إلى العمل، لأنَّ العودة للبيت بعد العمل الشَّاق، وكدح النَّهار طلباً للرزق الحلال، لها طعم خاص. 
دِيـــــــــل الفَتْحَهــــــن من الإِلـه ربَّاني
دِيــــل الفَنَّهــــن مَا بقلـِّــــــدو العِلَّاني
دِيـل البِى العَتَاميـــــر طَلَّعـو الشِّريانِ
أسْقُو الطِّينة والحَجَّار يسُوهُو مَبَانِي
***
     تُؤسَسُ الرُّؤى الشِّعرية عند الشِّيخ علي ود قيامة، على دعائم ومرتكزات اليقين، والفتوحات الرَّبانية على عباده، الذين يعملون من منطلق: "وقل اعملوا..."، التوبة 105، وتكون ثمرة عطائهم متفردة، ونسيج وحدها، لا تشبه عطاء الآخرين، وبخاصة في المجال الذي يهتم به الشيخ كثيراً. وهو مجال الزِّراعة، وما يرتبط بها من نشاط وعمل.
تَشْجيــــع الوَطن دايــــــر رجال يهتَمُّوا
والزُّول يسخَى بى رايو وفلوسو ودَمُّو
ارفعوا روســـكم فوق ما تنعموا تتقموا
قبَّالكم رجال قطعـــــوا المَسافـــات لمُّــوا
***
       يتحسس النَّص خلايا الوطنية في جسد الثَّقافة السُّودانية، فالجود بالرَّأي والمال والدَّم، هو الجود الذي يحتاجه الوطن ليرتفع ويسمو، وهذا لا يكون إلا للمهتمين، الذين يدفعهم إلى العطاء والبذل، تراثٌ من البطولة والسَّخاء، أسوة بما تبذله الشُّعوب الأُخرى، وهو ما كان عند آبائهم، الذين أوصلوا لهم الرَّاية خفاقةً زاهية، فلا بد من صونها والحفاظ عليها.
خَلاص اتصلَّح البَلَد القِبِيـــل فرقــاتْ
خَلاص ارْتِحنا مِن قُولة رحيلهم فاتْ
خَلاص رَاقَت عُيـــونَّا والقُلوب ثَابْتَاتْ
بِى مَهَلـَـــــــة بَلَدنـا ومُلْتَقى الخَيــــْـرَاتْ
      تشتاق النَّفس البشرية إلى الاستقرار، وضمان الحياة الكريمة، ولم يكن هذا متاحاً في أيام الرَّحيل، والهِجْرة الموسمية، وراء الكلأ والماء، في الأراضي البعيدة عن المدَّامر، وفي بال الشيخ ود قيامة، أَنَّ الاستقرار يؤدي إلى تعليم الأَبناء، وتطور المجتمع، لهذا سعد جداً ببشريات التَّنمية، التي بدأت تظهر في المجتمع المحيط به، والذي نشأ وترعرع فيه، فعندما تتدفق الخيرات على أرضه، تهدأ العيون القلقة وترتاح. وهذا لا ينفي أهمية الرحيل، ودوره الحيوي المهم في الحفاظ على الثروات الحيوانية وزيادتها، مع ارتباط هذا الرَّحيل بأنساق تراثية، لازالت بروائها عند أهل البوادي البعيدة، المعافاة من ضوضاء البنادر وحراكها المزعج، كما في مراعي الدِّندر، وشمال كردفان وسهل البطانة، وغيرها من المراعي المفتوحة ذات المسارات القديمة. 
      يكتسب الحوار مع حفيدي الشيخ علي ود قيامة، علي  محمَّد علي ود قيامة، ونصر الدين أحمد علي ود قيامة، قيمة عالية وتتنوع عناصره، لتدلنا على الدور الكبير، الذي كان يقوم به الشيخ علي ود قيامة، في توعية الناس بأهمية العمل، والتمسك بالأرض، مع الابتكار وتطوير الأدوات الزِّراعية التَّقليدية، لأَنَّ في هذا التَّطوير فوائد جمة، تعود على أهله المزارعين الكادحين بالخير الوفير.
     من المُحزن جداً أن تُعاني هذه المنطقة ( الكُتُوتاب) من مشكلة في المياه، بالرغم من وجود أربعة آبار، وعدد من البيارات بها، فهذه مسألة تحتاج لقليل من الجهود، التي أتمنى أن ترى النور قريباً، بعد تصدي أهل الشأن لهذا الأمر المهم جداً، تقديراً لمقام الشيخ الصَّالح علي ود قيامة، الذي أرشد الناس ودعا للعمل، والصِّدق، والتَّقوى ونفع النَّاس، وترك لنا إبداعاً نادراً، لا زلنا ننهل ونستقي منه دروساً عالية.
     رحم الله الشيخ علي رحمة الله ود قيامة، رحمة واسعة، وتقبله قبولاً حسناً، وجعل الجنة مثواه، مع الصِّديقين والشُّهداء، وحسن أولئك رفيقاً، فلقد فاضت روحه الطَّاهرة النقية إلى بارئها، في ميقات صلاة الفجر، وذلك يوم السَّبت الموافق الثَّاني عشر من شهر أبريل، عام ألفين وثلاثة ميلادية (12/4/2003م) بقرية الكتوتاب. إننا لا زلنا نتعلم منك أيها الشَّيخ الصالح على ود قيامة. "الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ". 156 البقرة.