السبت، 12 يناير 2013

كن

كن ناصحاً
كن واضحاً
كن ناجحاً
كن فالحاً

كن كالحا
كن أي شيء غير خذلان الصديق
كن أي شيء كن حريق
من أنت من غير الصديق؟
    
...محمد الفاتح أبوعاقلة

الكرم فحل الطباع


الكرم فحل الطباع
زمان وصونا أهــــــل الخلوة والتقابــــــــــــــــة
أورونا الفســــــل عايش بعيشـــــــــــــة التابا
قالولنا البخيـــــــــل بى العندو يوت بتغابى
ما طارى الكريـــــــــــــــم مولاه فاتـــح أبوابه
                                    محمد الفاتح أبوعاقلة 

الخميس، 10 يناير 2013

قراءة في ديوان ود نصرالدين في مدح خير المرسلين

 مقدمة (ديوان ود نصر الدين في مدح خير المرسلين)
سليمان ود نصر الدين حماد نصر الدين عبدالقادر 1837-1941م
(أحد عشر كوكباً من ديوان ود نصر الدين في مدح خير المرسلين)
  
                                     أ.محمّد الفاتح يوسُف أبوعاقلة

      بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا محمَّد عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم  وبعد! لقد أبدع وأجاد وصدق حسَّان بن ثابت حين قال:
آليتُ مَــا في جميـــــــــــعِ النَّاسِ مجتهـداً مِني أَلية بـَـرٍ غيـــــرَ إفنـــــــادِ
تاللهِ ما حَملتْ أنثى ولا وضعتْ مثلَ الرَّســولِ نبِّي الأُمَّةِ الهـادي
ولا بَرا اللهُ خلقـــــــــاً مِن بريتِـــه أوْفَــى بذمــــــــــةِ جـــَــــــــــــارٍ أو بميـــــــــــــعادِ
مِن الـَّذي كان فيـــــــــــنا يُستضـــاءُ به مبارك الأمـرِ ذا عَـدلٍ وإرشـادِ
      المديح النبوي ضرب رفيع من أضرب الإبداع السوداني، تتجلى فيه ملكة النظم الشعري عند أهل السودان، فصيحهم والعامي. ولقد أسهم المديح بقدر كبير وفعال في نشر الثقافة الدينية في السُّودان، وصار رافداً للوعي بالسيرة النبوية، ومكارم الأخلاق التي تجسدها وتبثها في المجتمعات الإنسانية.
   من خلال الألفاظ العامية التي يتواصل معها عامَّة النَّاس في السُّودان، وبواسطتها يتم التَّعبير الأدبي (أدب المدائح)، وصلة العامية السُّودانية بالفصحى، صلة متينة لا شك فيها؛ بل هي من أقرب عاميات الوطن العربي للغة العربية الفصحى، وكتاب (العربية في السُّودان) للشيخ عبدالله عبدالرحمن الضرير، و(قاموس اللهجة العامية في السُّودان)، للبروفيسور عون الشريف قاسم خير شاهد على ذلك.
   ولقد أبدع شعراء المدائح بالسودان في أشعارهم المادحة للرَّسول صلَّى الله عليه وسلم وللصحابة الكرام، ومنهم شاعرنا ود نصر الدين، الذي أقف على أشعاره للمرَّة الأولى، ولقد سعدت جداً بقراءة قصائده المادحة، والتي وجدتها تشع بالمحبة للرَّسول صلَّى الله عليه وسلم، وتنهج الصدق والطلاقة في النظم، وسبك الألفاظ والصور. وهنا لا بد من إشارة إلى أن تراثنا الشَّعبي السُّوداني يحتاج منَّا إلى نظر وعناية! فكيف لنا أن نغفل عن ديوان كهذا كل هذا الزَّمان؟ علماً بأن شاعره – ود نصرالدين-  قد عاش في الفترة من 1837 -1941م، 1252 ه- 1356ه، حسب ما أورده الأخ الأمين جاه الله يوسف، في مقدمة الدِّيوان.
    إننا نلمح تشابهاً في النَّفس الشِّعري بينه وبين الشَّاعر المادح محمَّد حياتي بن الشيخ الحاج حمد بن العربي 1290 ه- 1362ه، والشاعر المادح (ود نصرالدين) وفق هذا التاريخ، سابق للشيخ حياتي في فترته التَّاريخية، وبالرغم من هذا لم يشتهر شهرة الشيخ حياتي، شاعر المديح العارف البارع. وتبرير الشيخ (ود نصرالدين) لهذا الأمر بعدم توفر (الزُّمَّال) الذين لهم دور مهم وحيوي في ذيوع القصائد المادحة وانتشارها بين الناس تبرير موضوعي ومقنع، فلو توفر لهذا القصيد الحي (زُمَّالاً) بارعين لشنَّفوا مسامع النَّاس بالأمداح الطيّبة العذبة، ولكنها مشيئة الله تعالى!
     جزى الله الأخ الأمين جاه الله يوسف خيراً، على رعايته وحفاوته بهذا الديوان المهم جداً، فهو إضافة لتراث المديح السُّوداني. والباحثون في هذا الضَّرب الأدبي، والمختصون في دراساته، يسعون طلباً للشواهد والأمثلة، التي تتأبى في أحايين كثيرة وتستعصي على الباحثين، وذلك للوقوف على الأجناس الأدبية في ثقافتنا السودانية، وسبر أغوارها وفهم خصائصها وسماتها.
نَشـْـــــــــــرَب ونِتْبــَـرَّدْ عُمـُــــــــــــــــومْ
نَمْحِي الوزار الكَانــَــــا كُــــــــومْ
لِىﹶ مَكَّة نَنوي طَواف قُدُومْ
نَلْبَسْ إزَارْ نـــــَــــرْمِي الهِدُومْ 
     إنه الحنينُ الغلابُ إلى ينابيع النَّقاء والطُّهر، واستجابة لداعي الحج- مؤتمر الإسلام وركنه الطيب- الذي يتنادى له المسلمون من كل حدب وصوب، راكبين وراجلين، من كلِّ الملل والنِّحل والأصقاع، يتجردون من كثافة الدنيا، طمعاً في لطيف الإيمان وبرد اليقين.
     موسيقى النظم تنقر على إيقاع المُربَّع الحاني، وسداة الألفاظ تنسج على رواء حرف الميم في، (عموم، نمحي، كوم، مكَّة، قدوم، نرمي، الهدوم). سلاسة ونظم غير مفتعل (سهواً رهواً)، لا نحس فيه بتكلف الموضوع، بل هو الصِّدقُ الخالص، وحبُّ المصطفى صلَّى الله عليه وسلم!
أرْوَاحنا زَامتْ يا فَهــــُــــــــومْ
نَلقُطْ حُجَار نَرْمِي الرّجُومْ
طَلَعنـا عَرَفَة وحُمْنَا حُــومْ
حَتِّيـــــــــــــــــــــنا ذَنبــــاً لِينَا رُومْ
        قاموس شعري منتخب من المتداول والرَّاهن واليومي، وهذا عامل مهم وحاسم في تفاعل المديح وتأثيره في السَّامعين من عامة الناس في المجتمع السُّوداني، فالرِّجال والنِّساء والأطفال، كلهم ينجذبون لهذا القصيد، ويتواصلون مع مضامينه ويستجيبون لتوجيهاته. وفي ثنايا النَّص شعائر الحج في تجريد شعري سهل، يحيط بعملية لقْط الحَصى في الطريق من مزدلفة إلى منى وذلك لرمي الجمرات، والوقوف بعرفة، والتحلل بعد الذَّبح والحلق، أو التَّقصير ثم الطواف بالبيت، والتخلُّص من الذنوب، تبعاً لأداء الشَّعيرة المهمَّة. ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُث ولَمْ يَفْسقْ رَجَع كَيوم وَلَدْتُهُ أُمُّـــــه". متَّفق عليه.

مُعْجِـزاتْ طــَــــــــه المُحْتــــرَمْ
بِى مَسيسُو الضَـــرْع عَتَمْ
إنْ وَطَا للصَّـــــمْ لانْ وَجَمْ
مِنْ فُراقو العُـــودْ حَنْ رَزَمْ
نِعْمَه يا النَّوى لِيـــــــــــو قَدمْ
شَقَّا فوق التِّيــــــــــه والسِّهَمْ
خَتَّا فُوقْ الرَّوضَة والحَرَمْ
شَافْ ضَريحاً فِيـــــــو النِّعَمْ
***
    لا يخلو شعر (ود نصر الدين) من شفافية وفهم عميق لمعجزات الرُّسول صلَّى الله عليه وسلم،  فهو متشرب بسيرته عليه أفضل الصَّلاة والتسليم، وهذه المعجزات تتوافق مع الجو النَّفسي للإنسان السُّوداني وتجتذب كل مشاعره.
   وعملاً بقوله تعالى: "إنَّ اللهَ وملائكَتَه يُصلُّون على النَّبي ياأيها الذِين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسْليمَا"، الأحزاب 56.
 يكثر الشَّاعر المَادح (ود نصر الدين)، من الصَّلاة على الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في معظم قصائده، وفي هذا قُرْبَى لله وعبادة، والمَدائح بهذا المَنْهج مما ينفع النَّاس، لأنها دعوة خالصة للخير وللعبادة وحسن السُّلوك. ونلمح بعض ملامح (الملامتية)[1] في قوله (من كونو محقَّرا): 


الصَّلاة والسَّلام ما صَبْ سحَابْ مَطَّرا
مَا قَـــــــــامْ نَبَــــــات بُتَّابْ عِيــــــــــــشْ أَوْ شَرا
مِن عَبْدَك سليـــــــــمانْ مِنْ كَونُـــــو مُحَقَّرا
ترضيك يا الرَّسُـــــــولْ  ؤفي حُبَّك مَتْجَرا
***   
      زجر النفس وردعها، والنأي عن العجب والرِّياء والسُّمعة، من أقوم مقومات الشخصية المتصوفة، والتي  تتخفى، ولا تظهر الخضوع إلا لله تعالى، وتواصل إتهام ولوم نفسها بالقصور والضعف وقِلَّةِ الحيلة:
(سئل بعضهم ما صفة أهل المَلامَة؟
فقال: دوام التهمة، فإن فيها دوام المحاذرة، ومن قويت محاذرته سهل عليه رد الشبهـات وتـرك السيئـات) [2]
   وللمَراثي مكانة في هذا الدِّيوان، ومنها مرثية ود نصرالدين، للشيخ دفع الله الغرقان، والتي جاء فيها: 
يبكنكْ قَبايــل مِنْ شـــــرُوقْ ؤغروبْ
فَقدكْ حـَــــارقْ الرَّاكــــب مَع الأقرُوبْ
دُوبْ للبَرْمَكِي أترو الزَّمانْ شَقْلُوبْ
قَهوتكْ دَوَّرتْ والشَّاي جَالْ بالكُوبْ
        وعلاقة المريدين مع شيوخهم وآبائهم الصَّالحين، علاقة متينة وخالصة لله تعالى، تربطها وتمتِّن عراها محبتهم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهي المحبَّة التي تكون القاسم المشترك بينهم"، المــــــــا عنــــــدو محبة ما عنُّــــــدو الحبَّة" ،
  هناك موجهات ضروية ولازمة، يتحرى النـَّــــاظر في التُّراث الشَّفهي السُّوداني وجودها، في أي مبحث، وتحقيق، ومدارسة، وأحسبها من الأشياء التي إلتفت إليها الأخ الأمين جاه الله يوسف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-  توخِّي الدِّقَّة في رسم الألفاظ صوتياً.
2-  ثبت بالمفردات ومعانيها.
3-  بناء المدائح على أنساق المديح المعروفة مثل: (المربَّع، والمخبوت، والدَّقلاشي، والمعشَّر، والحَرْبي).
4-   ضبط الرِّواية بالشَّكل كما وردت من أفواه الرُّواة، والدِّقة في حفظها وتوثيقها.
5-  ملاحظة أنَّ المادح ود نصر الدين، يختتم المدائح بالإشارة إلى اسمه، وهذا أسلوب ثابت عند شعراء المديح السُّوداني. وله شواهده من الشِّعر العربي القديم، فهو يندرج تحت ما يسمى ب (التخلُّص)، وهو في الغزل (عقر القصيدة)، حيث ذكره البُلغاء قديماً ووصفوه بأنه: ذكر المادح لاسمه في آخر القصيدة. وبعض النقَّاد يعيبون القصائد التي لا يُذكر فيها هذا التخلص، ويسموُّنها (مقتضبة). ومن أضرب التَّخلُّص، التِّكرار، والتَّرديد، وذكر العكس، وذكر الاطراد، والتكميل، وذكر التَّفريق، وذكر القسم ...الخ.
 ابنُ نَصــــرالدِّين هـــَـدَاهَا
 للرَّســُـــول دَايِرْ جـــَــــزَاهَا
  
6-  الالتفات إلى أن (ود نصر الدين) يفتتح مدائحه بالتَّسمية، ثم يثنِّي بالصَّلاة على الرَّسول صَلَّى الله عليه وسلَّم.
7-  القراءة وفق الضَّبط بالشَّكل، تعين على فهم معاني قصائد المديح. 

عُقولنا لَبَّتْ يا فَهُــــــــوُمْ   بَسْمـَــــع لِى صُوت حَاميـــني أنُوم
قَالْ عَاجِلاً يا مَادْحِي قُــــــــــومْ   خَلِّـــــي التَّكَاســـُــــل والهُمُــــــوم
نَسـْــــرِي ونَقُـــــــوم مِتْباشِريـــــــنْ   خَشِّيــــنَا فِي سُوحـُــــــو الأمِينْ
8-  توظيف علامات وحركات خاصَّة، كالفتحة الممالة إلى الوراء، في لفظ (دُوبْ) ( دوب للبَرْمكي)، فالواو ممالة للوراء، وتحتاج لحركة خاصَّة تعين على قراءتها والنطق بها، كما هي عند عامَّة الناس في السُّودان.
قَالْ مَرْحَباً لِيـــــكُمْ ضَمِيـــــنْ   بِالفــُـــــــوﹶزْ يُوﹶم العـيـــــــبْ يِبِينْ
      الرأي عندي أنَّ هذه النصوص لا تمثل إلا قدراً يسيراً من قصائد ود نصرالدين، فشاعرٌ له مثل هذه الملكة والبراعة، لا يكون شعره بهذه القلة. وهذه دعوة لكل الذين لديهم بعض نصوص من أمداحه التي لم يتضمنها هذا الديوان، فعليهم مد القائمين على الديوان بها لمزيد من التَّحقيق والضبط، وحتى تصل معظمُ قصائدِ الشاعرِ لقُرَّاء ومتذوقي المديح السوداني.
   هذا الديوان عطاء طيِّب للثَّقافة السُّودانية، ومجهود مقدَّر ومعتبر من الذين قاموا على جمعه وتنقيحه وتحقيقه، حتى رأى النُّور شاهداً على إبداع الإنسان السوداني، المتمثل في الشَّاعر المادح (ود نصرالدين)، المحب للرَّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم. كل العشم أنْ يكون هذا العمل فاتحة خير لأعمال توثيقية أُخْرَى، يقوم بها أهلنا الجموعية أصحاب التُّراث الثُّر القيِّم! ولقد عُرفوا بأنهم (أهل كتاب)، كما لهم أيضاً كلُّ سمات (أهلِ الركاب).
                                                                                     

[1] الملامتية: من المتصوفة، سمو بهذا الاسم لأنهم يجتهدون في لوم النفس وكبح جماحها، وينأون عن العجب والرِّياء والسمعة، ويعملون على تأديب النفس، ورياضتها بالزهد والتواضع والانكسار..
[2]  د . أبو العلا عفيفي "الملامتية والصُّوفية وأهل الفتوة"، ط/ دار إحياء الكتب العربيةـ القاهرة، مصر 1945م (أكتوبر) 2006  ص 100

الأربعاء، 9 يناير 2013

التّجاني يوسف بشير بوتقة الرؤى والرّحيق



 التّجاني يوسف بشير بوتقة الرؤى والرّحيق
                                      بقلم أ. محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة 
 شاعرٌ فذٌ وعبقريٌّ نابه من عباقرةِ الكلمِ والفنِّ والإبداعِ في بلادي، حَري بنا أن نحتفي بأشعاره ونوليها قدراً مُعتبراً من المُدارسةِ والنَّظرِ، ويتأتى لنا بعضُ هذا إن قمنا بنثرِ عيونِ شعره في مناهجنا عبر معظم المَراحلِ التَّعليميةِ.
        في شعرِه صلةٌ عميقةٌ ولُحمةٌ أصيلةٌ براسبنا الإنساني الحضاري! أشواقه، رؤاه، فكره، معايشته لواقع المجتمع السوداني آنذاك، وفي مَرْحَلةٍ مِفصليةٍ من مراحلِ تطورِ البلاد، خطوطه  ترتسم على قسمات وجودنا الحي غربة المثقف المبدع بيننا، والتي لا  تزال آثارها تلف حياتنا وواقعنا غربة عجيبة ! 
                  من بحر الكامل الأحذ
حَبَكَ الْقَضَاءُ شِرَاكَهُ وَرَمَى   لِلْعَقْلِ مِنْهُ بِضَيِّقٍ ضَنْكِ
وَالْعَقْلُ يَنْصِبُ مِنْ حَبَائِلِهِ   نُصُبَاً مَعَاقِدُهَا مِنَ الشَّوْكِ
أَنَا مِنْ قَوَادِحِ مَا تَجُرُّ يَدِي     أَبَدَاً قَنِيْصَةُ ذَلِكَ الْحَبْكِ
مَا زِلْتُ أَقْطَعُهُ وَيَعْقِدُنِي        وَالْمَرْءُ بَيْنَ قَلاقِلٍ رُبْكِ
      ويقول التجاني يوسف بشير

تَبَارَكَ الَّذِي خَلَقْ    مِنْ مُضْغَةٍ وَمِنْ عَلَقْ
سُبْحَانَهُ مُصَوِّرَاً     مِنْ حَمْأَةِ الطِّيْنِ حَدَقْ
شَقَّ الْجُفُونَ السُّودَ وَاسْتَلَّ مِنَ اللَّيْلِ الْفَلَقْ
وَاسْتَخْرَجَ الإِنْسَانَ  مِنْ مَحْضِ رِيَاءٍ وَمَلَقْ
مُفْتَرِعَاً مِنْ فَمِهِ         سِرَّ الْبَيَـــــانِ فَنَطَقْ
وَجَاعِــــلاً بَيْنَ حَنَايَا         هُ فُؤَادَاً فَخَفَــقْ
من مجزوء الرجز
ديوانُه إشراقة فيه كلُّ الإشراقِ والقُوةِ والجزالةِ والبَلاغةِ فِي قوالبَ من موسيقى الشِّعرِ وسِحْرِه. رغم المكابدةِ والأوجاعِ أوجاعِ الحياةِ التي تتمنعُ وتشاكسُ، رغم كلِّ هذه العقباتِ، تبَرعمتْ وازدهرتْ وأثْمَرتْ قطوفُ (إشراقة)، وتذوقنا حلاوةَ جَناها، فيا سبحان الله !!!
   إنها النفسُ الكبيرةُ، نفسٌ يطالُ مُرادُها الجَوزاءَ!! ولا تُقْعدُها صَدَمَاتُ الحياةِ، وشَظَفُ العَيْش فِيهَا.
هذا شاعرٌ يستحقُ منَّا كلَّ العنايةِ والحفاوةِ والتَّقدير، فهو عبقريةٌ قلَّ مثيلُها في مضمارِ الشِّعر، إنْ حاصرنا النُّصوصَ في حيِّزها الجُغرافيِّ والتَّاريخي، وفي البالِ أبو القاسم الشَّابي، شاعرُ تونسَ الخضراء، الذي عاش معه في نفسِ الفَترة الزَّمنية، وفارقَ الدنيا وهو في مثلِ سني عمره، والتي لم تتجاوزِ الخَمسَ والعشرين سنةً، عجبي لهذا الأمر!! فاعتبارُ الكمِّ هنا مدعاةٌ للعبرةِ والعظة!!! 
      ارتباطُه بالمَعْهَدِ العِلمي ونَظْمُه لقصيدتِه المُفَكرةِ ( المَعْهدُ العلمي) (عَرْضُحالٌ) لصِراعِ الأفكارِ ومعايشةِ الرَّأي الآخَرِ عندنا، بين التصالحِ والتَّقاطعِ معه!! درسٌ من الدروسِ التي ألقاها علينا، ولم نستفدْ منها بَعد! ولكنه لا زال متاحاً!!
                                                                 القصيدة على بحر الكامل الأول  
السِّحــــر فيكَ وَفيكَ مِـن أَسبابـه دَعَـةُ الـمُـدِل بِعَبقـري شَبابـه
يا مَعْهَدي وَمَحطَ عَهـدِ صِباي من دارٍ تَطرّقُ عَـن شَبـابٍ نَابـهِ
واليَومَ يَدفَعُني الحَنيـنُ فأنثني وَلهـــــانُ مُضطَرِبـاً إِلـى أَعْتابِـهِ
سَبقَ الهَوى عَينَيّ في مِضْمـاره وَجَرى وَأَجفَل خاطِري مِن بَابهِ
وَدَّعـتُ غَـضّ صِباي تَحتَ ظِلاله وَدَفنت بيض سني في مِحرابهِ
نَضّـرتُ فَجر سنـي مِـنْ أَنْدائِـهِ وَاشتَرتُ ملءَ يَديّ مِن أَعنابِهِ
هُوَ مَعهَـدي وَلَئن حَفظت صَنيعه فأَنا ابنُ سَرْحته الذي غَنـَّى بِهِ
فَأَعيذُ ناشئة التُقـى أَن يرجفــــوا بِفَتـى يَمتّ إِلَيـهِ فـي أحسابـهِ
مـا زِلت أَكبَرُ في الشَبابِ وَأَغتَدي وَأَروحُ بَينَ بخٍ وَيا مَرْحَى بِـهِ
حَتّى رُميتُ وَلَستُ أَول كَوكَـب نَفِس الزَمانُ عَلَيهِ فَضلَ شِهابـه
قالوا وَأرجفتِ النُفوسُ وَأَوجفت هَلَعاً وَهاجَ وَماجَ قَسـورُ غابـهِ
كفر ابنُ يوسفَ مِن شَقيٍّ وَاعتَدى وَبَغَى وَلَسـتُ بِعابـئٍ أَو آبـه
قالُـوا احرقُوه بل اصْلبوه بل انسفُوا للريحِ ناجسَ عظمهِ وإهابة
وَلَو أن فَوقَ المَوتِ مِن مُتلمـسٍ لِلمَرءِ مُـدّ إِلَـيّ مِـــــــن أَسبابـه
          قصيدةُ (الصُّوفي المعذب) توغلُ في عوالمِ مرتكزاتِ الثقافةِ السُّودانيةِ وتستبطنُ أسرارَ الوجودِ الحقْ، وتجلياتِ الحضورِ والشَّهادةِ والجَذبِ في نزوعٍ فكريٍّ يستحضرُ أبا تمام، وأبا العتاهية وأبا العلاء المَعَرِّي، وأبا القاسم الجنيد والحلاج وابن الفارض، فيسمو بالمَعنى، ويستخلصُ الفكرةَ من قبضةِ طينِ الوجودِ العطن، ويَرى خلفَ غيومِ الآني الكثيفِ ما لا تراه العينُ التي ران عليها اشتغال الأنفس بالمعاشُ ومغالبة كبد الكدح في طلب اللقمة الحلال. 
                                                          (على بحر الرمل) 
الوجودُ الحـقُّ ما أوسعَ في النَّفسِ مَداه
والسُّكونُ المحضُ ما أوثقَ بالروحِ عُراه
كلُّ ما في الكونِ يمشي في حناياهُ الإله
هذه النملةُ في رِقَّتهــــــــــا رجـعُ صداه
هو يحيـا في حواشيـها وتحيـا في ثراه
وهـي إنْ أسلمتِ الـــــــروحَ تلقتـها يداه
لم تمـتْ فيـها حيـــــاةُ اللهِ إنْ كنتَ تَـراه
     (أنشودةُ الجِّنِّ) غنائيةٌ عالية وتنويعٌ على النَّغم الموسيقي المتاح للقصيدةِ العربيةِ ويتجلَّى رواءُ اللحنِ المستكنِ في النَّصِ من خلال دوزنةِ شجنِ المُغَنِّي (سيد خليفة) رحمه الله، والصادرِ من ينابيعِ شدوِّه المترعةِ بالصَّحوِ والإشراق. القاموسه (نقاوة) من ألفاظِ العربيةِ القُحَّة (الرُّبى الوهادْ البيدْ ومعْبد وزريابْ والرَّباب ومناجاة الأعراب) في ملمحٍ من الاستغراقِ في الطبيعةِ التي تغْمِسُ النَّصَّ أو تكادُ في الرُّومانسيةِ العذبةِ 
                                                               (المنسرح الرابع توشيحاً)  
قـُمْ يـا طرير الشَّباب
غـَـنِّ لـنَـا غـَـنِّ
يـا حُـلو يا مُستطاب
أُنــشـودةَ الـجِـنِّ
وأقـطِفْ ليَّ الأعنـاب
وأمْــلأ بـها دَنـِّي
مِـن عـَبْقَرِيِّ الرَّباب
أو حـَـرمِ الـفـَـنِّ
صح في الربى والوهاد
واسـترقص الـبيدا
واسـكب عـلى كل ناد
مـا يـسحر الـغيدا
وفـجِّـــر الأعــواد
رجـعـا وتـرديـدا
حـتى ترى في البلاد
مــن فـرحة عـيدا
وامـسح على زرياب
واطـمس عـلى معبد
وأغـش كـنار الغاب
فــي هـدأة الـمرقد
وحــدث الأعــراب
عـن روعـة المشـهد
قصيدةُ تُوتِي في الصَّباحِ Gallery ومرسمٌ مفتوحٌ على جروفِ النيلِ صباحاً ومساءً في حضرةِ أهلِنا الميامينَ في توتي، فالشاعرُ يكتبُ تاريخَ جغرافيا المكانِ والمجتمعِ.
              يقول التجاني على على بحر المجتث 
     يا درةً حفَّهـا النيـــــــلُ واحتواها البرُّ
     صحا الدُّجى وتغشَّاك في الأسرَّةِ فجرُ
      وصاحَ بيــــن الرُّبى الغُـرِّ عبقريُّ أغرُ
      وطافَ حَولَك رَكبُ من الكَراكِي غُـــــرُّ
     وراحَ ينِفِضُ عينيه من بني الأيك حُرُّ
      فمـاجَ بالأيكِ عُشٌّ وقامَ في العُشِّ دَيرُ
    كم ذا تمــــازجَ فنٌّ على يديكِ وسحـرُ
     يخــــورُ ثورٌ وتثغو شـاةٌ وتنهقُ حُمرُ
      والبَهمُ تمــــرحُ والزَّرعُ مونقٌ مخضرُّ

ومما أسقطه مُصَممُ المَنْهجِ التَّعليميِّ مِن النَّصِ:


وَطَــلَّ قَرْنُــكِ يا شَمـــــــسُ آنذَاك يـُذرُّ
فكلُّ غُصــن مَصابيــحُ مِن نَدَى يُستدرُّ
ونوَّرَ الطلُّ واحمَّـر فِي الثَّرى المُخْضَرُّ
وذَابَ في الرَّملِ أو ماجَ في الترائبِ تِبرُ
تُرجِّلُ الرِّيـحُ ما أنْهَالَ من نَقَــــا أو تذَرُّ
رَمَـلاءُ يُبـْرِقُ دُرُّ مِنْهَا ويُبْهِــــــــــرُ ذَرُّ
-عبقريةٌ في اللغةِ العربيةِ ومآلاتِها، الشَّيءُ الذي نَحِنُ إليه الآن !!
-عبقريةٌ في الأسلوبِ يترسمُ خطاها المبدعونَ وطلابُ الأدب.
-عبقريةٌ في الأفكارِ والرؤى والأخيلةِ، تهفو لها أنفسُ القومِ في كلِّ المواقيتِ ! 
                                              قصيدة محراب النِّيل 
                                                                          (بحر الخفيف)
                            أنتَ يا نيلُ يا سليلَ الفَراديسِ
                                                نبيلٌ موفَّقٌ في مَسابك
                           حضنتك الأملاكُ في جنةِ الخلدِ
                                             ورفَّت على وضئ ِعُبابك
                            وتحدَّرتَ في الزَّمانِ وأفرغتَ
                                        على الشرقِ جنةً من رِضابك 
                           عجبٌ أنتَ صاعداً في 
مراقيك
                                        لعَمْري أو هابطاً في انْصبَابك
                           كم نبيلٍ بمجد ماضيك 
                                       مأخوذٍ وكم ساجدٍ على أعتابك
      بين نثرِه وشعرِه صلةٌ عميقةٌ! 
أشار إلى ذلك الأديب الرَّاحل الدكتور محمد عبد الحي -عليه رحمة الله-، في دراسته القيمة عن التجاني يوسف بشير،  تحقيق الآثار النثرية الكاملة للتِّجاني يوسف بشير. 
                      يتبع...