الجمعة، 29 أبريل 2011

الحبوبة/ مخزون الخبرات التربوية


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحبُّوبةُ: مَخْزُونُ الخِبْرَاتِ التَّربويِّة 
  

    محمد الفاتح يوسُف أبوعاقلة 
      كثيرة هي الأشياءُ والمسائلُ المهمَّة التي نتخطاها سراعاً دون الالتفات إليها بمحبَّةٍ وإلفةٍ وصدق. وكثيرة هي العبر والدّروس التي يختزنها ماضينا ولا ننظر إليها بكبير تقدير يليق بها، ونحن في عجلةٍ من أمرنا، كأنها لا تعني لنا شيئاً! بالرغم من أنَّها ربما تكون هي الدواء لجملة من عللنا المزمنِّة الملحَّة. 
    ولقد ورد في الحديث مانصه: "أخبرنا عِمْرانُ بنُ مُوسى بنُ مُجَاشِع قَالَ: حَدّثنا عُثمانُ بنُ أبي شَيْبَة قَالَ: حَدَّثنا جَريرُ عن عبدِ الملكِ بنٍ أبي بَشِير عَنْ عِكرمةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَفَعَه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قَالَ:
    ليسَ مِنَّا مَنْ لمْ يُوَقِّرِ الكَبيرَ ويرْحَمِ الصَّغيرَ" ويأْمُرْ بالمعْرُوفِ ويَنْهَ عَنِ المنْكَرِ“. صدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلَّم".
    فرحمة الصغير وتوقير الكبير، لازمةٌ من لوازم فلاح وصحاح المجتمع، وترابط أواصره، وحلول الخير والبركة فيه ! والأمثال الشَّعبية والأشعار والقصص والحكايات والأحاجي، تبسط لنا أهمية المسألة،  وتمحورها حول ضرورة وأهميَّة الارتكاز على أساسٍ سابق:  
             (الما عندو قديم ما عندو جديد)...
             (الماعندو كبير يكوس لى كبير) ...
             (البُنَا عندو ساس إنْ تمَّ ضلُّو بعم) ....
             (ألبل بقودوها بى هاديها)....
             (الفي والدك بقالدك)...
      وهذا (السَّاس) أو الأساس، هو المُؤهلُ اللازم الضَّروري لكي يعمَّ ضُلُّ هذا البناء! والحياة مسيرة نمشيها ومعنا آخرون، ولقد مشاها قبلنا آباءٌ وأمُهَّاتٌ وجِدَّاتٌ وأجداد، فهلْ علمنا عن مسيرتهم شيئاً ولو يسيراً ؟  فهم في محل الأساس (الساس).     
                          (لابُدْ نَمْشِي بالدَّرِبْ الْمَشُوۤبُو كُبَارْنَا)
      السير(المَشِي) على خُطَى السَّابقين لا يعني أبداً، أنْ نُقلَّدهم في كل شيء، وأنْ نتكلَّس عند تجاربهم ولا نغادرها البته!  كلا بلْ علينا إنْ انتبهنا أنْ نتمثَّل ما خبروه وما تحصَّلُوا عليه من تجارب، اقتنصوها بعد عراكٍ مع الأيام والسنين. وفي هذا المسعى منهج وطريق للنَّجاح.
     الحبُّوبة محور هذا الموضوع، من هؤلاء الذين مشوا دروب الحياة قبلنا، واكتسبوا منها الكثير من التَّجارب. فما المانع، وما الذي يضيرنا إنْ وقفنا عند تجاربهم تلك وقفة تأملٍ وتدبُّرِ وتمثُّل وتقدير؟  وقديماً قالت الشَّاعرة المُرْغُمَابية (شَغَبَة)، ولفظ اسمها بفتح الشِّين والغَيْن والباء، على غير ما درج عليه كثير من النَّاس في زماننا هذا، إذ نجدهم يلفظون اسمها بسكون الغين. قالت في بعض شعرها ما يمكننا أن نتخذه منطلقاً ومفتتحاً للأمور، قالت عن رجال قبيلتها:
أوَّل فـي زَمَــان الحَـــــرب
بنَقْعُد فِي ضَرَاهُن مَا بنَخافْ السَّلْب
دِيـلْ أولاد أُمَّات قُنَاعاً مَا بِنَبِّح كَلْب
ؤبِتْدعكوا عَلى الحَرْبَة التَّرِيـع القَلْب

    الحبُّوُبَـة حفيدة (أُمَّات) المقنع المستور، في هيئتها المحتشمة وسلوكها الوقور بنت أبوها وأمها. واسمها حَبُّوبة على صلة واشتقاق بحَبَّ يُحِبُّ حُبَّاً َهْو مَحْبُوب وهْي مَحْبُوبَة وهُو حَبُّوۤبْ، وهي حَبُّوۤبَة:
   (والحُبَّةُ، بالضم‏:‏ المَحْبُوبُ، وهي بِهاءٍ، وجَمْعُ الحِبِّ‏:‏ أحْبَابٌ وحِبَّانٌ وحُبُوبٌ وحَبَبَةٌ، محركةً، وحُبُّ بالضم، عَزِيزٌ، أو اسمُ جَمْعٍ‏).
    هذا مما ورد في القاموس المحيط، للشيخ مجد الدِّين الفيروزآبادي في باب الباء فصل الحاء. وهو شاهد على صلة اسمها ومعناها بالحُب والمحبَّة. و"الما عندو محبَّة ما عندو الحَبَّة، العندو مَحَبَّة ما خلّى الحَبَّة" على حد قول شيخنا العارف بالله العبيد ود بدر رحمه الله رحمة واسعة.  


     الحَبُّوۤبَة سَيِّدَةُ الأحَاجِي
    هي سيدة الحِكَايةُ الشَّعْبيَّةُ، وسيدة الأحاجي التِّي ربما تكون من (الحِجَا) وهو العَقَل. و(الحُجَى) سرد يحيي العقولَ ويُحفِّزُ القَرائحَ، ويطلق الملكاتِ والقدراتِ، ويُسرجُ خيولَ الأخيلةِ لتنطلقَ في عوالمِ الكونِ الفسيحِ! وأطفالنا في انتظارٍ وشوقٍ ولهفةٍ  لهذا. فهو محرِّض لأخيلتهم ومدعاة للفكر واتقاد الذِّهن.
   فعندما تسأل الحبوبة أبناءَها وتقول مختبرةً لهم:
                   " بِتْعَرفُوا اللابِس كَمَّيـن هِـــدِم ؤما بِعَرْف النَّضِمْ ؟"
      وهي تنظر إلى عيونهم البريئة المضيئة بشغف المعرفة، المستمتعة  بمدار الونس والحديث فتراها شفيفة موحية. وهم يتنافسون في تخمين ومعرفة المقصود. وإنْ عجزوا بعد محاولات كثيرة، واستسلموا وطلبوا معرفة المقصود، أسعفتهم به مع الشَّرح ومزيد من الايضاح والفائدة.
   (اللابس كمِّيـن هِدِم، ؤما بعرف النَّضِم تَرَاهُو قَنْدُول عيش الرِّيف) ولمحلول المعنى هنا مذاق حار، ولمقاصد ألفاظها مرمى بعيد، ينتظر الأحفاد في مقبلات الأيام، حيث يدركونه حينذاك ويتذكَّرون ما إشارة الحبوبة المحبوبة.
   لا تخلو ثقافة شعب من الشُّعوب، من جنس هذه الحكايات الشَّعبية، التي تؤسس لبنائها المعرفي الحضاري المستقبلي. وهي محطةٌ من محطات مسارها الطويل بل هي من أكثر المحطَّات إلفة؛ لأنها محلُّ الاستراحة واطلاقِ المشاعرِ والمواجيدِ والأشْجانِ.  
    دَرْسٌ مُهِمٌ وحِكْمَة غَاليةٌ
   وما تحدثت مع شخص من الاشخاص في السودان وذكرت له الجدة ( الحبوبة) إلا ولمحت في عينيه ذلك الضوء المشع بالإلف والإلفة والحنان! ولا أخلو أنا من ذلك فجدتي نفيسة عبدالكريم السُّنِّي، حفيدة الشيخ الورع محمَّد مدني السُّنِّي، مؤسس مدينة ودمدني- رحمه الله- كانت لى الشَّاهد الذي ملأت نفسي فضائله ومآثره، فتزودت منها بالعديد من المهارات والخبرات والمعارف والحكم والدُّروس التي لا زالت عوناً لي في مهامه الحياة ودروبها العجيبة. أذكر أنَّها في أمسية من أمسيات طفولتي المبكرة وأنا أعيش معها في كنفها وتحت رعايتها وتربايتها، إذ باغتتني قائلة: ( إنت سمعت بى: " ألحس مسنّي وأنوم متهنِّي ؟
قلت: لا يا حبوبة لم أسمع بها.
قالت: كان في فار ساكن في جُحر في دكَّان جزار، يأكل طوَّالي في الشُّحوم واللحوم مبسوط شديد يعني. وفي دكان حلاق قريب من دكَّان الجزَّار كان في فار تاني، ساكن في جُحر جوَّاهو. ما عندو شيء ياكلوا غير يقوم يلحس بواقي الزِّيت الفي حَجَر مَسَن الحِلاقة. أهـــا اتلاقو في يوم من الأيام وقعدوا يتونسوا.  قام فار الجزار قال لى فار الحلاق: تعال نتبادل، تسكن في الجُحُر الأنا ساكن فيهو، وإنا بسكن في محلك.
    اتفقوا وكل واحد مش لى جحر التَّاني سكن فيهو.
  مرّت الأيام، وفي يوم من الأيام لمح الجَّار الفار الضَّعيف اَبْ ضُلَعاً برَّة وقال: ده شنو ده؟ ده الجابو هنا شنو؟ ؤطوّالي قام شَال مُوية الحَلَّة الفايرة البتغلي جمبو، ؤكبَّاها في جحر الفار، فسخ ليهـو جلدو، قعد الفـار يسرِّخ ؤقام جاري جـري شديـد لى جحرو القديم !
   قام فار الجزَّار القبيـل بادلو سألوا: مالك الجابك جاري شنو؟
قال ليهو: أسمع يا أخوي!! أنا أخيــر لي ألحس مَسَنِّي وأنوم متهَنِّي!!)
     وهي محصلة تجربة وحكمة بالغة ومسألة مفصلية في النظر إلى الحياة وهي من موجهات الأديان والأعراف، وتتوافق مع فطرة الإنسان السوي، فالقناعة والرضى بالمقسوم، ومد الكراع قدر اللحاف، وغيرها من الإشارات العميقة هي من الضمانات المهمَّة لتماسك المجتمع وأمنه. فعدم تطلَّع النَّاس إلى ما في أيدي الآخرين، ونبذ الحسد، هو من جوهر العيش الكريم! هذه وغيرها من الحكايات والأحاجي عالم رحب وفضاء معرفي مفتوح للحِكم والتَّجارب والدُّروس والعبر. ولا تخلو من إمتاع وسمر ومؤانسة وتسلية.
     فعوالم فاطمة السَّمْحَة، ود النَّمير، الشَّاطر حسن، فاطمة االقصب الأخدر ووصف الغول،  والسُّعْلُوَّة والبَعَّاتي،  ؤود أُمْ بُعُلُّو، عوالم للدَّهشة والحيوية فهي كترياق مضاد للأرق والخوف، فذكر الشَّيء المخيف ومعرفته، والامساك بكل تفاصيله يجعله في محل المألوف الذي لا يُخشى. ولنا أن نتساءل ونحن نرى الفضائيات مواقع الإنترنت ومجلالت الأطفال تزدحم بقصص الأطفال المرعبة التي تتقطع فيها الأوصال، وتتناثر فيها الدِّماء وهي تحكي عن مصاصي الدِّماء والسَّحَرة والغيلان. لنا أن نتساءل أين هذا من أحاجي حبوباتنا؟
ولقد صدق د. عبدالله علي إبراهيم في كل الذي ذهب إليه في إضاءته لغروب شمس المؤسسة الثقافية التي تمثلها الحبوبة. فالغرب الذي نقلِّده ونستورد ثقافته عاد يفكِّر في توظيف الحبُّوبات في سلك التَّعليم وتربية النَّشء، ونحن نتخلَّص من الحبُّوبات بالهزء من زِيِّها وطريقة كلامها، والذي هو التخلُّص منها بالفعل، ونستبدلها بالدَّادت والتِّلفزيونات (القشريونات) فإنه تخلص قد أتى ثماره فيما أرى الآن! إلا ما رحم الله ! 
الحبُّوبة: عَرِف قدرها المبدعون الأفذاذ
    أبو الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس رثى جدته بمرثية تقطَّعت لها نياط قلوب القرَّاء، وعشَّاق الأدب الرفيع ودمعت عيونهم، وهي التي يقول مطلعها:  
ألا لا أُري الأيام مدحاً ولا ذَمَّا     فما بطشها جهلاً وما كفُّها حِلما
وفيها يستثيره الحنين إليها:
أحِنُّ إلى الكأسِ الَّتي شَرِبَتْ بِها     وأهْوَى لمثواها التُّرابَ وما ضَمَّا
بكيتُ عليها خِيفــةً فِي حَياتِها     وذَاقَ كِلانَــــــــــا ثُكلَ صَاحِبـِه قِدْمَا
إلى أنّْ يقول:
أَتَاها كِتابِي بَعدَ يَأْسٍ وَتَرحَةٍ       فَماتَت سُروراً بي فَمُتُّ بِها غَمّا
 حَرامٌ عَلى قَلبي السُرورُ فَإِنَّني      أَعُدُّ الَّذِي ماتَت بِهِ بَعدَها سُمَّا  

تَعَجَّبُ مِن خَطِّي وَلَفظي كَأَنَّها     تَرى بِحُروفِ السَطرِ أَغرِبَةً عُصمَا
  وَتَلثَمُـهُ حَتَّى أَصارَ مِــدادُه        مَحاجِرَ عَينَيها وَأَنيابَها سُحمَا
رَقا دَمعُها الجاري وَجَفَّت جُفونُها     وَفارَقَ حُبّي قَلبَها بَعدَ ما أَدمَى
وَلَم يُسلِها إِلّا المَنايا وَإِنَّما        أَشَدُّ مِنَ السُقمِ الَّذي أَذهَبَ السُّقمَا

 طَلَبتُ لَها حَظّاً فَفاتَت وَفاتَني    وَقَدْ رَضِيَت بي لَو رَضيتُ بِها قِسمَا
فَأَصبَحتُ أَستَسقي الغَمام لِقَبرِها وَقَد كُنتُ أَستَسْقي الوَغَى وَالقَنا الصُمَّا
    فللَّه دره! لقد ماتت جدته سروراً به وبكتابه، بالرغم من الغَم الذي اعتراه وهذا حريٌّ بالذي يعرف أقدار الناس، ألم يكن هو القائل:  
                       وَلَوْ كَانَ النّساءُ كَمَنْ فَقَدْنا
                          لفُضِّلَتِ النّسَاءُ على الرِّجالِ
                      ومَا التأْنِيثُ لاسمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
                              ولا التَّذكيـرُ فَخْرٌ للهِلالِ
                      وأَفْجَعُ مَنْ فَقَدْنا مَن وَجَدْنا
                              قُبَيلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ المِثَالِ
                      يُدَفِّنُ بَعْضُنا بَعْضَاً وتَمْشِي
                            أوَاخِرُنَا عَلى هَامِ الأوَالي
ولقد رثى الشَّاعر أحمد شوقي جدته بنص شعري مترع بالشجن العميق والحكمة ووفلسفة الحياة والموت، وقيمة الإنسان التي تسمو بالعطاء والبذل ومكارم الأخلاق وفي مطلعه يقول: 
  خلقنا للحياة ِ وللمَمات            ومِنْ هذَين كُلُّ الحَادِثَاتِ
إلى قوله:
   وعن تسعين عاماً كنتِ فيها    مثالَ المُحْسِناتِ الفُضْلياتِ
   بَررتِ المؤمناتِ، فقال كلٌّ:         لعلكِ أنتِ أُمُّ المُؤْمِناتِ
   وكانت في الفضائـلِ باقياتٌ       وأَنتِ اليومَ كلُّ الباقياتِ
       الشَّواهد على قدرها ومكانتها من الكثرة بحيث يضيق بها مجال هذه الورقة، ولكننا لابد من ذكر بعض أفضالها ومآثرها على كثير من المبدعين. ومنهم الرِّوائي العالمي (أليكس هيلي) صاحب رواية (الجذور)، التي استقى تفاصيلها من جدته، والشَّاعر السُّوداني العبقري محمَّد المهدي المجذوب الذي ذكر أثر جدتيه على شعره. وغيرهم كثير ممن شهدوا بفضل جَدَّاتهم (حبوباتهم) عليهم.
  حتَّى في عالمِ الحيوان للحبُّوبَة قيمة
    تقاس أصالة الإبل وغيرها من الماشية في السُّودان بالنسب إلى عدد من الحبوبات، كما أشار إلى ذلك الشَّاعر الشَّعبي عبدالله حمد شوراني الذي ينسب بعيره إلى تسع حبوبات يعلم حساب نسبهن ويثق في ذلك تماماً:
   نَسْل الحُورِي جَمَل الكَاهْلِي وَدْ حَاجْ حَامدْ
   حَبُّوباتُو تِسْعَة عـزَاز حِسابِـــنْ جَامِــــــــــــدْ
   قَفَّ وخَـــــــفَّ لى بَلَــــــــــد المِعَانِس عَامِـــدْ
   عَارِفْ سِيـدُو مِصْحِبْلُو السَّهَـــرْ مُـو غَامِدْ
   ويقول في مُربَّعِ آخر:
  حَبُّوبـة أُمْ أبوك صَهْبَا وعليها كِرِيـتْ
  جَدْ جَـدَّك مِن العيـن مخفي بالكريـتْ
   عَلِى قِسْمَـة جَنازِيـر الدَّهَب في جبيتْ
       يا الشَـرَّاد دَخَلْنَـا الحَي ؤرَاس الغِيـــــــــتْ  
       ولعظم مكانتها وتقدير الشُّعوب لها ينادونها بجدتي وستي وتيتا ونينة، وكلها تشي بالمحبة والاستلطاف. وفي كردفان يطلقون عليها اسم (حَلُّولا). وهو لفظ حلو عذب، ينم عن تقدير وإعزاز. أما في الإنجليزية فهي  Grand ma
    والملاحظ أن معظم الشعوب تحتفى بالجِدَّات وتحفظ لهن الود. إلا بعض الدُّول حديثاً والتي ابتكرت دوراً للعجزة وكبار السن. يأوي فيها الأبناء آباءهم وأجدادهم وجداتهن. سبحان الله ! وهذا من الموجعات المحزنات!!
      استوقفتني قصيدة الشاعر محمد ود الرَّضي، والتي قالها في ست البيت، ولمحت فيها إشارة إلى الحبوبة، تنم عن دراية بما يناسب مقامها من الحشمة والوقار. فهو ينفي عن ست البيت، استعجالها لسن الحبوبة، وابتعادها عن التزيُّن لزوجها.
ماقالت بقيـــت حبـــــوبة
وتركت بوخَتَ
ه المحبوبــــــة
لو جَاتك مِنْ تِجاهَــــــا هَبوبَه
بِتَحْيـي عرُوقك
المَحبوبَـــة
        إذن عندما تصبح المرأة حبُّوۤبة تكون قد أدركت سِن الحِشمة الكاملة والوقار الذي يلزم الجميع ولكنها هي الأجدر بهذا؛ لأن للعمر أحكامه ولوازمه.
مَكَانَةُ الحبُّوۤبَة ودورها في الأُسْرَة
مكانة الحبوبة في الأسرة محل تقدير ودورها مهم جداً فهي:
    - مَرْجِعيَّة مَعْرِفيَّة
    - حلقة للتَّواصُل الإنْسَاني
    - رَافدٌ مِنْ رَوافِدِ النُّزُوعِ الوَطَنيِّ
    - ومكوِّنٌ مِنْ مُكَوِّناتِ الانْتِمَاءِ
    - مصدرالبَصَارَةُ والحِكْمَة والدَّبَارُ
    - يأْخٌذُ عَنْهَا الأَحْفَادُ خِبراتٍ عَمِيقًةً مثل:
     - إعْدَاد الطَّعامِ
     - التَّدبير
     - تقديرالعَمَل اليَدَوِي
الحبُّوبَة: الكَلِمَةُ النَّافِذَةُ وسُلْطةُ القَرَارِ
   حُضُورُ الْمَرْأَةِ السُّودَانيِّة والحبوبة تحديداً حضور واضح السِّمات في كثير من مناحي المجتمع السُّوداني، ولقد لمست ارتباط الكثير من الأسر الكريمة، والشَّخصيات السُّودانية بأسماء الجَدَّات الحبُّوبات والأمهات. وفي هذا شهادة لهن بالفضل وتقدير لهن. وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أنَّ من بعض الأسماء المشهورة:   
العِبِيـدْ ودْ رَيَّــا
وَدْ أمْ مريـــوۤم
عبدالقادر ودْحَبُّوۤبة
الطيِّب وَدْ ضَحَويَّة
الصَّادق ودْ آمنة
الحاجَّـة عَسَـاكِر
رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جناته.


     (الحبوبة) لها حضور قوي في مواقف تهم الأسر وتؤدي إلى تماسك المجتمع وتناغم عناصره فهي سند قوي في المواقيت الاجتماعية، وهي ضوء ينير ظلمات الليل وسامر يهزم وحشة الوحدة والدّماس الذي يخيف الأطفال فيهرعون إلى حكاياتها وعوالمها الدفيئة الحنونة. وهي نغم عذب في المناسبات وجديد الأحفاد فهي سيدة (البَنِينَة) و(العَدِيلَة) و(الضَّرِيرَة) والْمَنَاحات، وهي النَّجْدَة (الإسعاف الأولِّي الشَّعْبي)، النَّجْــدَة عند الضَّـرُورة! ترفع الأطفال الذين سقطوا من (الفِقَر) – بالقاف السُّودانية- وتعرف المفقوه منهم !
       تعلم بأوان الشَّعِيرَة التي تحل بالأطفال الصغار الرضع فتسعفهم وتعرك لهم لهاتهم بالبن، فتزول عنهم أعراضها، خبيرة بالطب الشعبي وماهرة فيه، تعرف الفِصَادَة، ولها خبرة بمداواة رّمَد الأطفال بلبن الأمهات، قَلِيَّة العِيۤش، وتستعين بالجردقة، والمستكة والشيح والمحريب والقرض والسنمكة وأشياء أخرى لا تعمل مقاديرها إلا هي، ودائماً ما تَكونُ في خِدْمَةٍ مَسَائِيةٍ مَع هَؤلاء:
      - الحفيد المختون
      - مع المريض
          - مع النّفساء ... الخ

         وليس عبثاً تسمية المصباح الشَّعبي التقليدي، باسم (حَبُّوۤبَة ونِّسِينِي). فهي رفقة مبهجة وأنس. والليالي شاهدة على صبرها وسهرها مع الأحفاد والأبناء، عند مواقيت الصعاب والشدائد. فتجدها تنام جلوساً ومسبحتها في يدها، وضوء المسرجة ينير قسمات وجهها الذي حفرت فيه السنوات أخاديدها، إنها (اللَّمْبَة أُمْ خِيـۤت) أو (الْمَسْرَجَة) والمصباح وكل مصادر الضياء والنور في الليالي هكذا هي!
الحُضُورٌ في النَّصِ الإبْدَاعِيِّ
       للحبوبة أثر واضح في فضائنا الثقافي، فهي من روافد الشِّعْر، والحِكَم  والقِصَّة،  والأمثال والرِّوَايَة، والأحاجي، وعندما نستمع إلى المبدع في التراث الشعبي عبدالرحمن بلاص يردد:
 بلال يا بلال يا أَبْ ذوق عشـا أمُّـو
                         المَنفَّـَل خالـو بيـن النَّاس ؤعمّـُو
 شَحَـدْتَ الله الكريـــم المال يلِمُّو
ويواصـل أَهَلُـو والنَّاقِـص يتمُـــــــــو
وأشوف أنا حي ؤياخُـد بِتْ أعَمُّـو
ؤيبكِّـر بالولـيدْ وأَنِي اشِيلو اشُمُّو
    نحس بحضورها في النَّص! فهي التي تشم أحفادها وترى فيهم الغد السمح الآتي. وتدعو لهم بالخير، والفأل السَّمح. وفي مرة في إحدى ليالي ود مدني العامرة في الثمانينات على ما أذكر استمعت إلى مغنٍ بارع، يردد في نص فريد في ضربه، بشجنٍ وصدقٍ أخَّّاذ، وعلى ما أذكر كان هو المبدع علي إدريس يقول فيه:
حبُّوبتي العظيم شَانَه الفي كيفـه سُلطانـه
مويــــــتاً ليها عَكْرَانـَة مطمِسـة فوقه فُنْجَانا
     والنَّص حميم جداً لم تسعفن الذاكرة به كاملاً. ولكنه يكتسي بملامح حوارية بين الحبوبة وحفيداتها، موجهة لهن برعاية بناتهن، ومتابعة ما يصدر عنهن ! حتى في الطفولة المبكرة.
   وفي مقام حبوبتي، (نفيسة عبد الكريم السني) -رحمها الله رحمة واسعة-
بِت العَازَّة قِدْرَت وهَّطَتْ
جوَّاي كيفْ يبْقَى الوجُود
كِيـۤفِنْ أكُـونْ  صَابرْ
على الوجَع الكــؤود !
ما خَلَّتْ الخَدَر اليخيِّسْ
يمشِي في عَصَب الصُّمُود
كَمْ واجَهَتْ دُهَم الصِّعَابْ
الْمُرَّة حَطَّمَـت السُّدُود
كَمْ فَرْهَدَتْ مَدَّتْ صَباح
العَافية لليّــلْ الحَقُودْ
كـَمْ خَلَّتْ الأَيامْ مَمَحَّنَة
كِيـۤفْ لِقَتْ سِرَّ الخُلُودْ
شِرْبَتْ لِبِيـۤنَة الطِّيبَة
مِيــرَاثْ الجُــدُودْ
عِرْفَت بإنـُّو الحَاجَة
هِي السَّم العَقـُــودْ
ياهَا التَّخَلِّي الرُّوح
معلَّقَة والرَّجَا الواسِع يِضِيقْ
فهمت بإنُّو الصِّدْق هُو
أفْضَل صَدِيــــق
وإنُّو التَّجِيك مَغْمُوسَة
في مويَة وشِيك ما بالَّه رِيقْ!
قامَت ؤصَلَّتْ مِن فَجُر:
بِسم الله مِنْ كُلَّ اليِعِيقْ
نَسجَت طَواقِي شَفَتْ بُرُوش
لِقَت العَمَل أجْمَل طَبِيق
كانْ بالـَه في الرِّزِق البِخَلِّي الرَّاسْ يِفِيقْ
ربَّت عِيالَه وعَلَّمَتْني
العـِزَّة في الزَّمَن الحَرِيقْ
حَجَّتني بِى وَد النَّمِير
والشَّاطِر النَّجَدْ الغَرِيق
والشِّيـۤخ أَبُوهَا السُّنِّي
كَانْ عَارْف الطَّرِيقْ
يايُمَّة  إنْتِ نَفِيسة
الدُّنْيا الْمَقَرْيَفَة للنَّفِيسْ
يا يُمَّة إنْتِ يَقِينْ مؤكَّدْ للبِقِيسْ
يا يُمَّة إنْتِ بِخَافِـكْ
الفَسِل الرَّخِيسْ
يَا يُمَّة بِتْ العَازَّة
مَيسِك أحْلَى مِيسْ
يَا شَرْقَة الضَّي البِفِجْ
طَارْد الدَّمِيسْ
يا واحَة للقَلبْ التَّعيسْ
يا أنْقَى مِن بَرَد المِطِيـۤرَة
وأشْهَى مِن قَدَح العَرِيس
غِيـۤرِك بَشُوفْ كُلْ شَئ نَقَاصْ
والأخدَراليَانِـع دَرِيسْ
  
ختامـــــاً 
    :الحبُّوبة: وجُودها عاملٌ فعَّالٌ في التَّربيةِ.
    : (ترباية الحبوبات) شهادة جودة في التربية.
    : يحدثُ غيابها فجوةً في هرمِ السِّلسلةِ الأُسرية.
    : لقدْ اختفتْ بغيابِها الكثيرُ من المفاهيمِ والخبراتِ.
    : لها اسهامٌ واضحٌ في تماسكِ الأُسرِ وتوافقِ الأزْواجِ,
    : أثَرُها عَلى المرْأَةِ السُّودانيَّة كبيرٌ.
    :الحبُّوبة قيمةٌ من قيمِ التَّربيةِ الأصِيلةِ.
    : المؤسساتُ التَّربويةُ تحقِّقُ نجاحاً إنْ لجأت إلى توظيفِ مَن بَقي مِنْهُنَّ في التَّعليمِ قَبلَ الْمَدْرَسي والأسَاسِي.
    - الزوجة الحديثة، هل تصلح كحبوبة ؟
    - الحبوبة تدعم ذكاء الأطفال، لا شك في ذلك !
    - هل حقاً فقدنا الحبوبات ؟
    - غياب الحبوبة وتأثيره السالب على الأطفال واضح.  

*** 
نشر الجزء الأول من هذا المقال بجريدة الشاهد يوم الجمعة  العدد 319 الموافق 29 أبريل 2011 ص 8
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.