الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

دواديب 2 Dwadeeb


دواديب (2)
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
عندما قال علي ود الطّيب النّجضاني، شاعر الحكمة والوعظ ـ رحمه الله ـ :
الدّرَبْ الطَّوِيلْ دَاير لى قِرْبَة وَتِيقَة
مابِمْشِي أبْ سِريويلاً مِسِيلُو بَنِيقَة
لِقيمْتَنْ مِنْ حَلالْ تَنْدَرِكْلُو حَقِيقَة
إبْرِيقْ ليلْ مَقَشَّط وتَبْنَتُو مِسَيرِيقَة
أشار إلى لوازم العمل والحركة التي تتبعها البركة، و"الفَرَّة أمْ دَرَّة ولا القَعْدة أمْ بُوم"، و"المَرْقَة الخَفَّاسِيَة" التي تفْضُل القَعْدَة "البِتَرْدَى زُولْها رَدِيّة"، وأضاف إلى هذه اللوازم، تواضع وزهد العارفين، أهل الطريق السالك إلى مراقي الصّفاء والطمأنية، فدلقون البَنِيقَة الصغيرة، المثلّث الملوّن على ساق السّروال "أب تِكَّة"، علامة على عجب النّفس، والزّهو والخيلاء عند الشّاعر، فالتجرّد منها ضروري وحتمي لعبور الطريق الدّرب، الدّاداب أو الدّيداب. والوصول إلى ميس السّلامة، يلزمه العمل في الخفاء خوفـًا من الرِّياء والسّمعة، فإبريق الليل "المَقَشَّط" ينادينا إليه في جو من خفوت الحركة والهدوء والسّكينة. واللقمة الحلال ما أطعمها ـ هنيئـًا مريئـًاـ بعد عناء وكدح نهار الحياة .
وفي مثل هذا الداداب تحرّك سعد محمّد علي موسى ود النِّصَيِّح ـ من أهالي بقّاري الأحامدة بمحلية الحصاحيصا ـ وأمسك بعدده المشدود على عصب الحضور العرفاني المتين، وساق قافيته الخالصة في ذوقها:
أنَا يَا نَفْسِي شَايْفِكْ ليّ مَا مِتَّبَعَه
عَاكَسْتِيني سَويتِي العِكَاسْ ليكْ طَبْعَه
أصْلِكْ جَافْلَه وأنَا بِي السُّوطْ دَه بَدِّيكْ لَبْعَه
بَخَلِيكْ هَامْلَة والهَامِل بِتَاكْلُو الضَّبْعَه
سوط العنج حاضر لجلد ظهر النّفس التي تتعب صاحبها، وتسوقه إلى دروب الرّهق والتّوتر، وهي إن لم تجلد بهذا السّوط الحارق، لتمادت جافلة في غيّها وطيشها وجنونها وهواها المهلك، وبهذا تكون لقمة طريّة في فم الضّبع الضاري الجائع!. والحوار معها أول درجات العافية، وخشم باب الفلاح والنّجاة من أذاها، وهو حوار ومونولوج يرتدي زيّ الإبداع الجميل، ويشحن النّص بطاقات من الشّعور الصّادق اللطيف.
هُوي يانَفْسِي سّاكَّة الدِّنْيَا مَا بْتَلْقِيهَا
جَرَّاي ما لْحِقَه وزُولْ أصْلو مَادَامْ فِيهَا
كُلْ أَعْمَالِكْ الفِي الدّنْيا سَوّيتِيهَا
صُرّة وخَيطْ هِنَاكْ يومْ النّشُورْ تَلْقِيهَا
سعد محمّد علي موسى ود النّصيّح، شاعر شعبي متميّز وله أسلوب متفرّد في التّعامل مع نصوصه الشّعرية، فهو يقوم بإيصالها للآخرين منغّمةً بصوته، على روايات الشّاشاى والدّوباي والمديح، وله ملكة قوية في الأداء الدّرامي المصاحب. لهذا تكتسي نصوصه أجنحةً تُمكّنها من التّحليف عاليـًا، وتعينه على شدِّ الحاضرين وكسب تفاعلهم ومشاركتهم في الفعل الشّعري الشّعبي، فهو أشبه بالتروبادور الذي يقوم بدوره المؤثّر في التّثقيف والإعلام الشّعبي.
وعندما يحاصر الشّاعر الذّات بالمكاشفة، والحوار الصّريح والجلد إن استدعى الأمر ذلك؛ يأتي الخطاب مترعـًا بالوعيد والتّحذير، فتقف "هووي"! والتي تقال في حالة الوعيد والتحذير، في مواجهة الذّات والنّفس، ولأنها نفس قلقلة عُرف عنها التعلّق بالدّنيا وزينتها؛ فهي أحوج ما تكون لهذا العلاج المر الموجع!.
والحقيقة ثمرة الحكمة والعقل الرّاجح الذي يخترق المجهول والمعمي، بحثـًا عن الأضواء المشرقة في قبو ودهليز النّفس المظلمة بران الدّنيا الحلوة. وصدق من قال:" العسل الببقو بشرقو". فالحلو إن أكثرنا منه وأدمنا تعاطيه أصبحنا أسرى له، وفقدنا طلاقة البشاشة والإرادة. فالشّئ ينتقل بسهولة من الإيجاب للسلب والضّد إذا تجاوز حدّه، تمامـًا كطائر الفينيق!.
وعلى تعلّق الموجود بالدّنيا، ومن متراكم خبرات الآخرين ومراصد الأسفار عبر التّاريخ، لم نسمع بمن لحق الدّنيا وأدركها وامتطى ظهرها، ودام له هذا المستقر دون أن يسقط ويقع ويزل عن متنها الزلق الأملس كجلد الحيّة. فمهما جرى وأبلى نعله وأرهق بدنه، فليس له نصيب دائم منها.
وفي إحدى مناوراتي الشعرية العفوية أقول:
ياطه بلقاك والرّهاب بالع دَواديب الخَلا الوحداني
في روق القطا وفي نَمَّتـًا عَاجباني، في دَمْلُوج مَدَرْدَم من لِبَايتُو رِبينا
اتكرّعنا واتّوعنا واتربينا، كان في الطّينة، في أم بُقْبُق مع أم آلبينا
في حَنْتُوت قِدِر يلحس أصابع العينة. في الرَّايهوبة غَزْ ودْعينو! خَتَّ يقينو في العَدَد البَداهُو أبْ شَام
ورَمى مُقْدَافو لا قِدّام واتحَتْحَت رَمَى الهَدَّام وكان عَوّام
وفي كَبد البَقُونَة يرارى قلبت صُوفة الحَسَس الولا نَوّام
إلى أنْ أقول:
ماالرّارايا لامن تبقى هَجْرة طوبة، يا تلقاها في أسْبار جبال النُّوبة
واللا على هِدِم مَكْرُوبة في صُرَّة طَرف حَبوبة!
والرّارايا ما بِدروبا غَاتسة دُروبه قَنُّورِيبة سَايقَة هبوبه
ها اليلهوبا خَل اليلعبُوبا الهُوبة! أصْلها تَارّة يوم مقلوبة!.
وهكذا هي الدّنيا "الرّارايا" عندي ، يتبارى الشّعراء في ذكر مفاتنها ومغرياتها وتلّونها وغيرها وأحوالها، ولا فكاك من العيش فيها والتّصالح معها، بما يكفل لنا ولكم السّلامة والنّجاة من شراك خيوطها التي لاتشبهها إلا خيوط بيت العنكبوت! وقديماً قال الطغرائي، أبوإسماعيل، الحسين بن علي (453هـ - 515 هـ) :
ترجو البـقاءَ بِدَارٍ لا ثَبَاتَ لها فهــــلْ سَمِعْتَ بِظِلٍّ غيرِمُنْتَقِلِ؟.

محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة 4/4/2008م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.